أوروبا تسعى للاستقلال الدفاعي- تحديات التمويل وتنسيق الجيوش
المؤلف: رامي الخليفة العلي10.05.2025

منذ تولي الرئيس دونالد ترمب مقاليد السلطة مجددًا في مستهل عام 2025، شهدت العلاقات الوثيقة بين الولايات المتحدة والقارة الأوروبية تفاقمًا ملحوظًا في حدة التوترات، الأمر الذي حدا بالاتحاد الأوروبي إلى إجراء مراجعة شاملة لإستراتيجيته الدفاعية والأمنية الراسخة. لقد استوعب القادة الأوروبيون جيدًا أن الاعتماد المطلق على الحماية الأمريكية الغالية لم يعد يمثل خيارًا عمليًا أو مستدامًا على المدى الطويل، لا سيما في ضوء التحولات الجيوسياسية المتسارعة والاتجاهات السياسية الأمريكية غير المستقرة التي قد تقوض التزامها الراسخ بالدفاع عن القارة العجوز. وفي هذا السياق الحساس، تجلت الحاجة الماسة إلى تعزيز القدرات الدفاعية الذاتية للاتحاد الأوروبي، حيث بادرت قرابة 20 دولة من الدول الأعضاء بالتوقيع على ميثاق نوايا طموح لتعزيز التعاون العسكري الوثيق وتقاسم الأعباء المالية لتطوير أنظمة الدفاع المشتركة المتطورة. لم تعد هذه المساعي مجرد خطط طموحة حبيسة الأدراج، بل تحولت إلى خطوات عملية ملموسة تهدف إلى تطوير أنظمة دفاع جوي وصاروخي متقدمة للغاية، وتوسيع نطاق قدرات الحرب الإلكترونية المعقدة، بالإضافة إلى الاستثمار المكثف في الذخائر المتطورة والسفن الحربية الحديثة. كما يسعى الاتحاد الأوروبي جاهدًا إلى تحسين قدرات المراقبة والاستطلاع الدقيق عبر الأقمار الصناعية المتطورة، فضلاً عن تعزيز الاعتماد على تقنيات الاتصالات المبتكرة والذكاء الاصطناعي المتطور لتطوير إستراتيجيات عسكرية أكثر كفاءة وفاعلية. التحدي الأكبر الذي يواجه القارة الأوروبية في هذا المسار الطموح هو التمويل الضخم، إذ تشير التقديرات الدقيقة إلى أن الاتحاد الأوروبي بات في أمس الحاجة إلى استثمار إضافي يقدر بنحو 500 مليار يورو على مدى العقد المقبل بأكمله لتعزيز الإنتاج العسكري وتلبية احتياجاته الدفاعية المتزايدة. يعكس هذا المبلغ الهائل بجلاء حجم العقبات الجمة التي تعترض طريق الاتحاد في سعيه الحثيث نحو تحقيق الاستقلالية الدفاعية المنشودة وتعزيز أمنه القومي. ومع ذلك، فإن الزيادة الملحوظة في الإنفاق العسكري للدول الأعضاء تعكس بوضوح مدى جدية هذه المساعي، حيث ارتفع الإنفاق العسكري الأوروبي بنسبة ملحوظة بلغت 30% في عام 2024 مقارنة بعام 2021، ليصل إلى 326 مليار يورو، أي ما يعادل 1.9% من الناتج المحلي الإجمالي لدول الاتحاد. ورغم هذه الزيادات الكبيرة، تشير بعض الدراسات المتعمقة إلى أن أوروبا قد تحتاج إلى استثمار سنوي يقدر بنحو 250 مليار يورو في المجال الدفاعي إذا ما أرادت الاستغناء تمامًا عن المظلة الأمنية الأمريكية المكلفة، وهو ما يعادل 1.5% من الناتج المحلي الإجمالي لها. هذا الاستثمار الضخم سيمكنها من تجهيز وتدريب قوة عسكرية قوامها نحو 300 ألف جندي مدربين تدريبًا عاليًا ومجهزين بأحدث التقنيات لأداء مهام الدفاع الذاتي بكفاءة، مما يعكس حجم التحولات الجذرية التي يسعى الاتحاد الأوروبي إلى تحقيقها في بنيته العسكرية الراسخة. لكن التحدي الحقيقي لا يكمن فقط في توفير التمويل اللازم، بل في القدرة على تنسيق الجهود المتضافرة بين جيوش الدول الأعضاء المختلفة، حيث لا تزال الفجوات واسعة بين العقائد العسكرية المتباينة والأنظمة التسليحية المتنوعة لدول الاتحاد. ورغم ذلك، فإن الإرادة السياسية الجماعية تبدو اليوم أكثر وضوحًا وتصميمًا من أي وقت مضى، حيث تدرك الدول الأوروبية تمام الإدراك أن بناء منظومة دفاعية أوروبية مستقلة لا يعني بالضرورة التخلي عن العلاقات الإستراتيجية الوثيقة مع الحلفاء التقليديين، بل يمثل خطوة جوهرية وضرورية لضمان أمنها القومي في عالم يموج بالتحولات المتسارعة والتهديدات المتزايدة. في ظل هذه الظروف الدقيقة، يبدو أن أوروبا تسير بخطى واثقة وثابتة نحو تعزيز استقلالها الدفاعي، وهو مسار طموح قد يمكنها، في المستقبل المنظور والمتوسط والبعيد، من بناء قوة عسكرية أوروبية قادرة على حماية مصالحها الحيوية والدفاع عنها بكفاءة عالية دون الحاجة إلى الاعتماد المفرط على القوى الخارجية المترددة. لكن السؤال الجوهري الذي يظل مطروحًا بإلحاح هو: هل سيتمكن الاتحاد الأوروبي الموحد من تجاوز عقباته الداخلية المعقدة وتحقيق هذا الهدف الطموح في ظل عالم يتسم بالاضطراب المتزايد وعدم اليقين العميق؟